إنما الكلام في موضوع الرشوة، وكلمات الأصحاب من الفقهاء واللغويين في ذلك مضطربة:
قال المحقق: « ويأثم الدافع لها إن توصّل بها إلى الحكم له بالباطل، ولو كان إلى حق لم يأثم »(1).
أقول: وعن ( جامع المقاصد )(2): « إن الجعل من المتحاكمين رشوة » لكن ظاهر الرواية(3): إن الأجرة على القضاء غير الرشوة ، فلذا كانت الأولى سحتاً والثانية كفراً.
وقيل: ما يبذله المتحاكمان رشوة ولو كان بعنوان الجعالة والاُجرة.
وفي القاموس: فسّر الرشوة بالجعل(4).
لكن في مجمع البحرين: قلّما تستعمل الرشوة إلاّ فيما يتوصّل به إلى ابطال حق أو تمشية باطل(5).
وقـال السيّد: هي ما يبذله للقاضي ليحكم له بالباطل أو ليحكم له، حقّاً كان أو باطلاً، أو ليعلّمه طريق المخاصمة حتى يغلب على خصمه، ولا فرق في الحرمة بين أن يكون ذلك لخصومة حاضرة أو متوقّعة »(6).
أقول: فإذا كانت الكلمات في بيان حقيقة الرشوة مختلفة ومضطربة، فإنه في كلّ مورد يشك في صدق عنوان « الرشوة » فيه مثل « أجور القضاة » يكون المرجع أصالة الحلّ، لكونها شبهة مصداقية لأدلّة حرمة الرشوة، إلاّ أن تثبت الحرمة من دليل آخر وبعنوان غير عنوان الرشوة.
والقدر المتيقن من الرشوة: أنها ما يبذله للقاضي حتى يحكم لصالحه، فهذا هو القدر المتيقن من الآية المباركة المذكورة أوّلاً، إلا أن الأخبار المستفيضة الواردة في الباب الخامس من أبواب ما يكتسب(7) به ، تدلّ على أن الرشا في الأحكام « سحت » و « كفر » ، وهي بإطلاقها تعمّ ما إذا كان البذل لإحقاق الحق.
لا يقال: إنها واردة في مورد الآية الكريمة.
لأنه يحتمل أن يكون قيد « بالإثم » غالبيّاً، لأن غالب الرّاشين يتوصّلون بالرشوة إلى أكل أموال الناس وإبطال حقوقهم.
فظهر أن الرشا في الحكم مطلقاً ـ أي حقّاً كان الحكم أو باطلاً ـ حرام بالكتاب والسنّة، وأما إذا توقّف إحقاق الحق على بذل شيء ـ بحيث لو لم يبذله لوقع في الضرر العظيم وضاع حقّه ـ جاز البذل، لتقدّم قاعدة نفي الضرر حينئذ، نظير ما قد يبذل للظّالم دفعاً لأذاه وتحفظاً من ضرره.
(1) شرائع الإسلام 4 : 78.
(2) جامع المقاصد في شرح القواعد 4 : 37.
(3) يعني: ما عن عمار بن مروان قال قال أبو عبد الله عليه السلام: « كلّ شيء غلّ من الإمام فهو سحت، والسحت أنواع كثيرة، منها ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة، ومنها أجور القضاة وأجور الفواجـر وثمن الخمر والنبيذ المسكر والربا بعد البينة، فأما الرّشا ـ يا عمّار ـ في الأحكام فإن ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله ». وسائل الشيعة 17 : 95/12 . أبواب ما يكتسب به ، الباب 5.